في أدب الدكتور داهش

كتاب “أسرار الآلهة” للدكتور داهش أدب الروحانيّة الواقعيّة

كتاب “أسرار الآلهة” للدكتور داهش

  أدب الروحانيّة الواقعيّة

                                                        بقلم باسيل دقّاق

                                                 محرّر في جريدة “الحياة” البيروتيّة

 

لم يكن داهش بك رسولاً فحسب ، بل كان أديباً من ألمع الأدباء . وفي الفترة التي قضاها في هذه الأرض ألّف كُتباً نفيسة تزخر بالمرامي البعيدة والمواضيع الجميلة الحافلة بالرقيق من التعابير ، والسلس من الجمل ، والبليغ من الحكم ، والرائع من التصاوير .

ويمتاز الأدب الداهشيّ بالروحانيّة الواقعيّة على أوسع مداها . فيجد المُطالع نفسه ، دون أن يدري ، وهو يحلّق بطائرة الفكر والرُّوح في الأجواءِ البعيدة بين الملائكة والأرواح الهائمة في الفضاء اللانهائي ، ويتّصل بالآلهة في مقرّها العلويّ ، ويعيش لحظات سعيدة معها في جنانها الخالدة . ويكتشف المُطالع أنّ الآلهة لها مثل عواطفنا ، فتحبّ ، وتبغض ، وتغضب ، وتثور ثم تهدأ ، ويأكل الحسد قلبها فتسعى للقضاء على أعدائها ، ولو كانوا من الأطهار الأبرياء ، كما هي الحال عندنا تماماً في هذه المعمورة ، حيث يبطش القويّ بالضعيف ، ويتحكّم أصحاب السلطان ، كما يشاؤون ، بمن أوقعهم سوء طالعهم تحت سلطانهم ، ويكيد الأشرار للأبرار المكائد غيرةً وحسداً .

ثم يهبط بك هذا الأديب الفذّ من دنيا الآلهة إلى دنيانا ، فيجعلك تعيش لحظات مع بعض من جارت عليهم الأقدار والنوائب ، وهدّتهم جيوش المصائب ، فباتوا مذهولين ، وإذا هم سائرون لا يدرون أيّ طريق يسلكون .

ويتحوّل الأدب الداهشيّ إلى الحياة الاجتماعيّة ، فلا يلقي الدروس والمواعظ ، ولا يسرد الحكم تباعاً ، بل يشرح الحوادث بأسلوب جذّاب خاصّ يجعل القارئ يستخلص الحكمة من تلقاء نفسه دون حاجة إلى شرحٍ أو تمديد . وهذه ناحية من الأدب الرفيع قلّ من استطاع ، من الأدباء ، بلوغها .

إنّ قوّة روحانيّة الدكتور داهش تتجلّى بأوضحِ صورها في هذه الكتب القيّمة العديدة التي وضعها . فداهش بك ، كما هو معلوم عند الجميع ، لم يتلقّ تعليماً عالياً ، بل حصلَ على نزرٍ يسير من العلوم التي لا تفيد إنساناً غير شيئاً . ولكنّ القوّة العليا التي كانت تسيّره ، ورسالته المُقدّسة التي كان يسعى لإتمامها ، وروحانيّته السامية ، والوحي العلويّ العجيب الذي كان يسيّر خطاه ، كلّ هذا جعل منه أديباً لا يضاهى ، وكاتباً كبيراً يُنافس أكبر الكتّاب والمُنشئين الذين قضوا نصف عمرهم في تلقّي الدروس والعلوم في أشهر الكلّيات والجامعات .

 

                                           “أسرار الآلهة”

يقدّم الدكتور داهش بك لكتابه بالتحدّث عن نفسه ، وعمّا دفعه إلى وضع هذا الكتاب . فينسب السبب إلى الكاتب الكبير جبران خليل جبران ، ويصف تأثير كتبه فيه . وكما كان جبران يتحدّث دائماً عن الفتاة التي أحبّها ، يحدّثنا داهش بك عن فتاته التي ملكت عليه شغاف قلبه ، وهو تارة يسمّيها “ديانا” وطوراً “سوسو”.

يبدأ الكتاب في العام 1927 . وتتتابع الحوادث مُتسلسلة حسب تواريخها ، حتّى جاء الكتاب كأنّه مُذكّرات كاتبه . ولكنّها مذكّرات لا كبقيّة المُذكّرات . فالحديث فيها طليّ أخّاد ، والوصف ساحر بديع . فهو عندما يحدّث معبودته ويبثّها أشواقه وعواطفه المُلتهبة ، يخيّل للقارئ أنّه هو نفسه العاشق الذي يضع قلبه عند قدمي حبيبته يستعطفها علّها تلين ، وتشفق عليه ، فتمنحه حبّها كاملاً ، وتسعده بعد طول الشقاء .

وقد وفّق كلّ التوفيق بإطلاقه اسم “ديانا” على فتاة أحلامه ، لأنّ وصفه البديع لجمالها ، يجعلها أجدر بمثل هذا الاسم من صاحبة الآلهة .

ويستعرض الكاتب كلّ العواطف والإحساسات التي يشعر بها العشّاق ، من فرحٍ وحزنٍ وغيرةٍ وسعادةٍ ويأسٍ وأمل . ويظهر لنا بوضوح كيف أنّ العشّاق يفرحون ويحزنون لأتفه الأسباب . فعند مغادرته مصر ، حيث ترك ديانا ، نرى أنفسنا وقد تخيّلنا شابّاً أذابه الفراق ، يودّع حبيبته بعباراتٍ تقطر شقاء وألماً ، ويتوسّل إلى ربّه أن يرحمه ويجمعه بمن يحبّ ، ولا يتركه يتلظّى بنار البين .

والظاهرة التي تسود كتب الدكتور داهش بك ، والتي تبدو بوضوح خلال كتاباته ، هي التجاؤه دائماً إلى الله ، متوسّلاً إليه أن يعينه على تحمّل مصائب الحياة ومظالم البشر ، وألاّ يدعه يقنط أو ييأس ، وأن يشمله برحمته ، وينفحه بقوّةٍ من عنده يستعين بها للقضاء على الشرور والآثام المُحيطة به ؛ وهكذا كان الأنبياء .

وفي إحدى الليالي يناجيها ويدعوها إليه ، فيخيّل له أنّها تجيبه من بعيد ، من المدينة التي تسكن فيها . ويدور حوار بينهما ، فهو يدعوها إليه ، وهي تعتذر بالقيود الزوجيّة التي تمنعها من موافاته . ويلحّ هو من جانبه ويخبرها بأنّه على فراش الموت . فتستهتر بكلّ القيود ، وتطير إليه ليموت بين ذراعيها وهي تبكيه بدموعٍ سخينة .

هنا أيضاً يُبدع داهش بك في وصفه . فهو يصف بإسهاب العواصف التي تجيش في أعماق الحبيبين ، والأفكار التي تمرّ بمخيّلتيهما ، والآلام التي يشعران بها عندما يتأكّدان من أنّهما سيفترقان ، وأنّ الموت سيكون سبب هذا الفراق . وإنّه لوصف بديع ساحر يحوي كلّ نبيل وشريف من العواطف ، وأرقّ المعاني والتعابير .

ويعود إلى عالم الحقيقة ، فيرى نفسه وحيداً ، فتنتابه نوبة مفاجئة من اليأس والقنوط والثورة على التي تعذّبه ، فينهال عليها تقريعاً ولوماً ، وينعتها بأحطّ النعوت ، ويلعنها مُستنزلاً عليها غضب السماء ونقمة الأرض .

ولكنّه لا يلبث أن ينتبه إلى نفسه ، فيغيّر لهجته ، ويحاول أن يراضيها ، فيأخذ في التغنّي باسمها ، ووصف جماله وتأثيره فيه .

ثمّ يقصّ علينا قصّة شابّ نام ، في غابة ، بعد أن أخرج صورة حبيبته من جيبه ، وأخذ يناجيها ويقبّلها ، فجاءته ثلاثة أشباح راحت تتأمّله مشفقة ، وهي تلعن الفتاة التي كانت سبب شقائه ولم ترع له عهداً . ثم كشف حجاب الطبيعة ،فبانت مدينة كبيرة ، وفي إحدى غرف بناية ، في أحد شوارعها ، ظهرت فتاة حسناء مُستسلمة لعناق رجل . ولم تكن هذه الفتاة سوى “سوسو”. وما هذه الرؤيا إلاّ صورة مُجسّمة للأفكار التي كانت تمرّ في مخيّلته عند تفكيره بحبيبته المتزوّجة من غيره في مصر .

ويتحدّث بعدئذ عن الأمل . وللامل دور كبير في حياة الدكتور داهش بك. فكم من مرّةٍ عاكسته الأقدار ، وأحبطت مشاريعه ، وتوالت عليه المصائب من حيث لا يدري ، فكان يتسلّح بالأمل بالمستقبل لمجابهة كلّ هذه الضربات . وكم من مرة تربّص به أعداؤه ، ودبّروا له المكائد للتخلّص منه والقضاء على رسالته ، وألّبوا عليه كلّ قوى الشر التي يتحكّمون بها ، طمعاً في أن يقنط أو ييأس من متابعة رسالته ، فينفض يديه منها إلى الأبد . فكانوا يفشلون دائماً لأنّهم كانوا يرونه يتسلّح بعزيمة لا تكلّ ، وبأمل وطيد لا يتزحزح بأن تتعدّل الأحوال ، ويأتي اليوم الذي ينتصر فيه على أعدائه ، ويرتفع صوت الحقّ على كلّ صوتٍ عداه ، وتفوز قوى الخير على قوى الشر .

هذا الأمل ، الذي التجأ إليه في أشدّ الساعات حرجاً والذي كان له فضل كبير في تحمله الأرزاء ومجابهتها ، هذا الأمل هو الذي يحدّثنا عنه تحت عنوان :” أيّها الأمل!”.

ولمصر مكانة خاصّة عند داهش بك . فهو يحبّها ويهواها كما يقول . وأحد أسباب حبّه لها كونها حارسة كنزه الثمين .

ويحدّثنا عن أول لقاء بينه وبين “سوسو” ، فنجد أنّه أحبّها من النظرة الأولى . فقد رآها بين صويحباتها ، وصعقه جمالها الأخّاد ، فلم يعد يدري ما يفعل ، وأحسّ كأنّه يعيش في الأحلام . ودون أن يرى الفتيات اللواتي كنّ معها ، تقدّم منها … ولم تستنكر رفيقاتها فعلته ، وما سخرن منه ، بل رحن يستعطفنها ويرجونها أن تشفق على شبابه ، وأن تبادله عاطفته .

والملحوظ في هذا الحبّ العنيف ، الذي يصفه لنا الدكتور داهش بك ، أنّه حبّ عذريّ طاهر شريف ، لا يرمي إلى غاية سافلة من ورائه . فإنّه يكتفي بمُناجاة حبيبته مُناجاة أفلاطونيّة ، لا أثر للنزوات الطارئة ، أو الرغبات الطائشة ، بل كلّ ما فيها سامٍ قدسيٍّ طاهر . ويتمثّلها بشخص الإله “ديانا” ، فيركع في محرابِ جمالها ، ويسكب سيل عواطفه الفيّاضة تحت قدميها دون أن يحيد عن الطريق القويم الذي اختطّه لنفسه .

هذه هي روح داهش بك . هذه هي روح من أرسلته القدرة الإلهيّة لإتمام رسالة خاصّة في دنيانا ، فترفّع عن الماديات بكلّ أنواعها ، وابتعد عن كلّ مغريات الحياة الدنيويّة . فإنّنا نرى في كتبه غراماً ولكنّنا لا نرى فساداً . إنّه غرام مثالي يجعلنا نرى الحبّ بغير الصورة التي رسمها لنا بقيّة الكتّاب ، ولأول مرّة ؛ الحب كما أراده الله أن يكون ، فغيّره البشر وحوّروه وجعلوه فاسداً شريراً ، بعد أن محوا منه كلّ ما كان فيه من قداسةٍ وطهارة .

ثم يسرد علينا قصّة فتاة جميلة إلى أبعد حدود الجمال تموت بين يدي كاهن ، بعد أن تطلب منه أن يغفر لها ذنوبها . ويشتدّ حزن زوجها عليها ، فيقع في غيبوبة طويلة ، فيحمله الكاهن إلى مكان آخر ويتركه مستسلماً لغيبوبته ، ثم يقفل راجعاً إلى حيث فراش الشابة الميّتة فيركع أمامه ويأخذ في البكاء .

أمّا سبب حزنه فنعلمه بعد حين ، عندما يقترب من الشابة ويناجيها بأعذب الأسماء ، ويكشف لها عن سرّه الدفين الذي حفظه في قلبه خمس سنوات كاملة . لقد أحبّها كلّ هذه المدّة دون أن يبوح لها بحبّها ، ولم يبح لها به الآن إلاّ لأنّها أصبحت في العالم الآخر .

وفي هذه القصّة أيضاً مثل آخر من هذا الحبّ الطاهر الذي نجده في كلّ جملة من الكتاب . وداهش بك إذ يتحدّث عن الكاهن ، يتحدّث عن نفسه ، فيصف ما كان يلاقيه من عذابٍ في بعده عن حبيبته “سوسو”، والآلام التي كانت تحيطه من كلّ جانب ، وهو يرى نفسه مُجبراً على الحياة بدونها .

ولا بدّ أنّه كان في ذلك الحين ، أي في العام 1933 ، مُحاطاً بأعدادٍ أشرار يدبّرون له المكائد للإيقاع به . حتّى أنّه راح يصف نفسه هائماً في صحراء مترامية الأطراف لا يعرف كيف يخرج منها ، ولكنّه لا ييأس ، بل يأمل في الفرج القريب . ثم يتخيّل نفسه سائراً في الطرق ، تحت الأمطار الغزيرة ، والرياح تعصف به من كلّ جانب ، وما من لباسٍ يستر به نفسه ، وأصدق وصف لحالته النفسيّة التي كان فيها ذلك الحين هو قوله :” ها قد زلّت بي قدمي …”

وما هذه الحياة الراكدة والأوحال التي تحيط به إلاّ الخطايا والمُوبقات المُنتشرة حوله في قلوب الناس وأفعالهم . ولكنّه لا يقنط مع كلّ هذا ، ويعود إلى الأمل والثقة بالله وبعدالته .

وتحت عنوان “الحبّ في الخيال” يقدّم لنا وصفاً من أبدع ما جادت به قريحته الفيّاضة . فقد قسم الحياة إلى أربعة أقسام أطلق على كلّ منها اسم فصل من الفصول السنة . ففي الربيع يصف لنا نفسه مع معبودته ، وهما يسبحان بروحيهما في الفضاء اللانهائي ، وينتقلان بين المروج الخضراء والأنهار المُنسابة بهدوءٍ خلال البساتين والحدائق الغنّاء .

وفي الصيف نراهما في الحقول وفي الجنائن ، حيث يتسابقان والطيور لجني الثمار الناضجة ، ويستمتعان كلّ الاستمتاع بقربهما ، ويتبعان الفراشات وهي تحوم حول الأزهار الفوّاحة ، وينهلان من ندى الصباح حتى يرتويا .

ويدركهما الخريف فيفزعهما ، ويستعجلان عودتهما عندما يريان الرياح تعصف بالأشجار ، ويسمعان ندب الياسمين ورثاء الرياحين .

أمّا في الشتاء ، فنرى أمامنا كهلين ، حنت ظهريهما الأيّام ، وقد التصقا ببعضهما ، وجلسا قرب الموقد يرتجفان من البرد ، وهما على عتبة الأبديّة ، ينتظران من لحظة إلى أخرى أن ينتقلا إلى العالم الآخر .

ثم ينتقل الدكتور داهش بك إلى سرد قصّة “عشق كيوبيد”، فيحدّثنا عن ابنة ملك ساحرة الجمال غارت منها “أفروديت” ، فأمرت ابنها “كيوبيد” بأن يقتلها . ولكن جمالها غلب لبّه ، فيأخذها إلى قصر في جزيرة نائية ، ويعيش معها . وكان لا يأتيها إلاّ في الليل ، ويحذّرها من محاولة رؤية وجهه . وتطلب منه في أحد الأيّام أن يأتيها بأختيها ، فيفعل . ولكنّهما تدفعانها إلى محاولة رؤية وجهه ، ممّا يؤدّي إلى هجره إيّاها . وهامت الفتاة باحثة عنه دون جدوى . وقد حاولت أن تستعطف ” أفروديت” ، ولكنّها كانت قاسية فطردتها . وأخيراً توسّل “كيوبيد” إلى “إله الآلهة ” أن يقبل توبة حبيبته ، فقبل ، وربطهما برباط الزواج ، وعادت السعادة إلى الحبيبين .

إنّها قصّة خياليّة ، وهي ترينا أن الآلهة لها مثل عواطفنا ، وتحسّ وتتأثّر مثلنا . وقد أراد أن يظهر لنا أنّ قوى الشرّ مهما طغت وبغت واسترسلت في الظلمِ لا بدّ أن يأتي يوم تنتصر فيه قوى الحقّ ، وتكون الغلبة للخير على الشر .

وينتقل بنا الدكتور داهش بك من الجوّ الخيالي إلى جوّ واقعي ممزوج ببعض الخيال . وهذا المزج هو من الدقّة بحيث لا يشعر القارئ أنّ القصّة التي يطالعها هي من نسيج الخيال ، بل قابلة الوقوع ، وأنّ أبطالها أحياء يقابلهم كلّ يوم تقريباً .

وعنوان القصّة “الأب أنطون والشيطان “. أمّا الشيطان فمعروف ولا يحتاج إلى تعريف . وأمّا الأب انطون فأحسن وصف له ما قاله فيه داهش بك في مستهلّ القصّة :

 

كان الأب أنطون الكلّيّ الاحترام والقداسة

مُتعمّقاً في الأمورِ اللاهوتيّة ،

مُتصفّحاً كلّ ما جاء في الكتب السماويّة ،

عارفاً ما هي الخطيئة المُميتة والخطيئة البسيطة ،

دارساً أنواع عذاب المطهر والجحيم والنعيم “.

 

والأب أنطون كاهن كبقيّة الكهنة ، ليس له من صناعة سوى الاتجار بالدين ، وباسم الدين ، وبكتب الدين ، وبتعاليم الله . وكان يقبض ثمن “أتعابه” ذهباً رناناً يدفعه الناس راضين مُغتبطين . ألم يمنحهم بدل ذهبهم بركته ؟ ألم يلق عليهم عظاته التي لا ينضب معينها ؟ !… ألم يتل بعض الصلوات على نيّتهم ؟!… فماذا يريدون إذاً ؟!… إنّ ما يمنحهم إيّاه لأغلى من كلّ ذهب الدنيا .

ولم يكن ينسى أن يمرّ في طريقه على بساتين أفراد رعيّته ، فيبارك الأثمار والفواكه ، ويخصّ نفسه بكميّة منها ليتذوّقها . هذا مع العلم أنّه يتذوّقها كلّ يوم .

وفي أحد الأيّام ، بينما كان عائداً إلى الدير ، طرق أذنيه أنين متواصل ، ولمّا بحث عن مصدره وجد مخلوقاً مُنطرحاً على الأرض ، والدماء تنزف من جراحه الكثيرة . ولمّا سأله عن اسمه أجابه :” أنا وليّ نعمتك وصديقك “. فلم يعرفه . وبعد حوار طويل أخبره أنّه الشيطان ، وأنّ جراحه سبّبها فريق من الملائكة ، وطلب منه أن يأخذه إلى الدير ليداوي جراحه . ولكنّ الأب أنطون رفض بكلّ شدّة وعزم .

ولكنّ الشيطان لم يقنط ، بل راح يُفهم الأب أنطون أنّه مُجبر على العناية به جرياً وراء مصلحته . لأنّه إذا مات (أي الشيطان ) لانعدمت الخطايا والمفاسد والموبقات من الدنيا ، وأصبح الناس كلّهم أطهاراً لا يحتاجون لمن يغفر لهم خطاياهم ، أو يعظهم . وبهذا تسدّ أبواب العيش أمام الأب أنطون ويموت من الجوع . وقد اقتنع الأب أنطون بهذا المنطق ، وحمل الشيطان على ظهره ، وأخذه إلى الدير حيث راح ، هو وبقيّة الكهنة ، يعتنون به ، ويضمّدون جراحه .

القصّة ، كما ترى ، جميلة . ولكنّ الوصف الذي تحتويه ألذّ منها بكثير لما يحويه من تعابيرٍ رائعة ، وجملٍ سلسة ، وأدبٍ رفيع .

وواضح هنا أنّ داهش بك لا يعني كاهناً خاصاً في قصّته هذه ، بل هو يتحدّث عن الكهنة بوجه عام ، ويطلع الناس على مخازيهم ومفاسدهم التي يخفونها عن أفراد رعيّتهم تحت ستار التجرّد والمسكنة والفقر والقناعة ، وسائر الفضائل التي لا يضمرون إلاّ عكسها تماماً .

وبهذه القصّة ينهي الدكتور داهش بك كتابه “أسرار الآلهة” ، وهي خير خاتمة لهذا الكتاب القيّم ، الحافل بالقطع الجميلة التي تستحقّ عن جدارة عنوان “أسرار الآلهة”.

 

                                                                         باسيل دقّاق

                                                                       بيروت ، 1946

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *

error: Content is protected !!