مُقدّمة “جحيم الذكريات”
مُقدّمة “جحيم الذكريات”
الترجمة الفرنسيّة
بقلم ماري حدّاد
ترى ، ما هي “الذكريات”؟
إنّها ذكريات أزمنة قريبة أو بعيدة ، وأحياناً ذكريات عالمٍ آخر وحياة فردوسيّة سابقة ، راتعة في أحضان الحقيقة والطهارة والجمال حيث تدعو الحوريّات والإلهات إلى الحبِّ الأقدس والأنقى والأصفى .
وشتّان ما بين هذا العالم الفردوسيّ والشقاء والقبح والآلام في الأرض !
يقول الدكتور داهش :”ترى ، ما هذا المجهول الذي يجور عليّ ويتشبّث بخطاي “؟
ومن هذه الآلام انبجست صيحات العذاب : تشوّق إلى الحقيقة ، نداءات إلى الموتِ نبعِ الخلود والإدراك والمعرفة .
-“ وأوتار تلك (القيثارة) الشجيّة النغم ، السحريّة التوقيع ،
تقطّعت ، وتفرّقت بدداً ، وغدت كالقصبة الجوفاء ،
تعبث بها رياح الصحراء ، فتوقّع الحاناً مشوّشة ، ضائعة …
لا حياة فيها ولا روح “.
-” ربّة الأحلام ! أنظري إلى عينيّ الذابلتين بعينيك المعسولتين النجلاوين ، فأنسى كياني بنظراتك الشافية لأتعاب روحي المتألّمة “.
-” أيتها الحياة ، إنّ قوانينك ظالمة ، قاسية ، جائرة “.
-” يا حبيبي الموت !…
يا حبيبي البهيّ وطيفي الوفيّ !
ألق على جسدي ظلاماً من خمود ،
وعلى روحي نوراً من خلود “.
-” ليت الآلهة تنظر إلى حالتي وترثي ،
ليتها تعيدني إلى موطني الذي أوفدتني منه
إلى هذه الأرض الشقيّة “.
وهنا تتتابع جميع فنون الإنشاء ، وفيها يعالج الدكتور داهش الكثير الكثير من الموضوعات : الصداقة ، والمرأة ، والفلسفة ، والتأمّل في الحياة والإنسان والطبيعة ، ولعنة العالم ، واستنزال السَّخط الإلهيّ على البشر .
ومن وجهة أخرى يُمجّد إبليس لدى مقارنته الإنسان :
“ إلى ربّ الهاوية وسلطان الجحيم …
يا لليوم الذي تكون فيه نهاية كلّ حيّ !
حين أتوسّل إليك أن تضعني إلى يمينك ،
لأسخر بملايين البشر الموضوعين إلى يسارك ؛
إذ ستنقشع إذ ذاك (الغمامة) وينهتك (الحجاب)،
فيعرف كلّ منهم إنّما كان هو الشيطان !
كان هو الشيطان ،
وكنت أنت الملاك !”
وتطالعك عبارات أمثال هذه :
“أنا ذو بأس ، وبأسي أكبته ، وأمنعه عن الظهور“.
ثم نقرأ في “تخيّلات ستُحقّقها الأيّام “:
” من يكون هذا الشابّ الراقص على قِمَمِ الجبال باصطخاب وجنون ؟
إنّه هائل … مُخيف … جبّار … رهيب …قويّ …
مُقتدر … ذو (قوّة تجتاح كلّ شيء)!…
إنّه عاصفة هوجاء ، وداهية دهياء ،
ورهبةٌ هائلة ، وهولٌ رهيب !
إنّه خوف لا يزول ،
وقوّة باطشة لا تحول !
إنه المُنتقم الجبّار ،
والمُحتكم القهّار !
إنّه …؟؟!!”.
وفي الكتاب أناشيد :
نشيد الورود المُفعم بالنضارة والجمال ؛ و”أنشودة الرُّوح ” التي تتسامى مُحاطة بالأسرار والرؤى ، أشبه بشهاب يتفجّر أفراحاً وأضواء .
تجتمع العناصر منصاعة لأوامر الإلهة إذ تقول :
“تغنّوا معي بالأناشيد العذبة …
لأنّ من تهواه نفسي وتحنو عليه روحي
قد أتى من الأبعاد السحيقة …
أنا المسيطرة على كلّ ما هو معروف ومجهول من أمور …
لقد تشبّعت روحي بالسعادة ،
وانتشت بالغبطة !”.
وفي قصيدة “جنّة الخلد” يقول :
” حلّقي يا روحي عالياً ، وجوبي الآفاق العلويّة !…
وابلغي يا روحي هناك حيث الفراديس الإلهيّة …
واجني يا منى نفسي أشهى ثمارها الجنيّة ،
ثم اقطفي من حدائقها الغنّاء أجمل أزهارها النديّة ،
وانشقي عبيرها الفوّاح ، وانعمي برائحتها العطريّة …
وانهلي من جدولها الرقراق بمرحٍ دافق وشهيّة ،
وانظري إلى الحواري الراقصات بحللهنّ الأرجوانيّة …
واهزجي مع الملائكة الأطهار بأهازيجك القدسيّة …
وارفعي صلواتك بخشوع كي لا تعودي إلى أرض الخطيّة …
وافني بحبِّ الله وسماواته النقيّة …
ولتمضِ الآجال والأجيال السحيقة وأنت غارقة في تأمّلاتك السماويّة !”
وإليك صلاة من أروع صلوات المؤلّف :
إلى فادي الأنام
” إلى من تجاوبت أصداء تعاليمه كافّة العوالم معروفها ومجهولها !
يا من ذاعت كلماته الطاهرة في مشارقِ الأرضِ ومغاربها …
يا من قادتنا تعاليمه الصادقة إلى الينابيع الإلهيّة السرمديّة “…
تلك نظرة سريعة على مجموعة من الأفكار جنيت من مُجمل الكتاب ، كلّ قطعةٍ من قطعه تؤلّف وحدة كاملة مختلفة عن الأخرى ؛ لكنّها جميعاً ذات خصائص غريبة كلّ الغرابة عن البشر ، ذلك بأنّ مصدرها أسمى بما لا يحدّ .
نعم ، إنّ طابعاً روحيّاً يمهر هذا المؤلّف ويسمو إلى الدوائر العلويّة الكلّية القداسة .
فهلاً تستطيع تعاليم هذا الكتاب أن ترتقي بنفوسنا المُقيّدة ، وتحرّرها من الأغلال التي تكبّلها بالمادّة ، وتدعها ترنو نحو العلاء نحو السماء نحو الله جلّت قدرته ؟
ماري حدّاد
بيروت ، في 26 حزيران 1955