الروح تتكلّم
وانطلقت المدفعيّة تحمحم وتزأر زئير الهول . وضجّت الموسيقى العسكريّة تعزف لحن الأبطال الخالدين تحيّة لرفات هؤلاء الشهداء البواسل .
فرفع الجميع قبعاتهم إجلالاً للأرواح الخالدة .
وتقدم رئيس البعثة العسكريّة فحيا الأموات الأحياء باسم ملك بريطانيا العظمى ومجّد بطولتهم وشكر لهم افتداءهم للوطن .
وبينما كان مستمرّاً في قراءة خطابه الطويل شاهدت ، أنا الدينار ، مشهداً عجيباً ملك عليّ مشاعري ، واستولى على حواسي .
فقد هبطت روح جلبرت الذي أصبحت يوماً ملكاً له ، هذا الشاب الذي سقط قتيلاً قبل خمسة أعوام ونصف بشظيّة قنبلة .
ومع أن روحه انتصبت أمام هذا الحشد العسكري ، ومع أن الآلاف من أرواح زملائه القتلى احتاطوا به وأحاطوه بأرواحهم ، وكانوا وجهاً لوجه أمام البعثة العسكريّة وفرقة الجنود … فإنّ هؤلاء الأغبياء لم يشاهدوا روحه وأرواح رفقائه .
ولفت نظري بصورة خاصة أمر عجيب دهشت له . فإن جلبرت وبقيّة الأرواح لم يلتفتوا حيث وضعت هياكلهم حتى ولم يعيروها أقل اهتمام . فكأنها لا رابطة كانت تربطهم بها طوال أيام حياتهم على هذه الأرض السخيفة .
وبينما كان رئيس البعثة ماضياً في خطابه التمجيدي التقليدي دوّت روح جلبرت بكلماتها الجهوريّة . فقالت :
– أيها القوم المداسّون!
إنّ حياتكم لهي سلسلة من المهازل آخذ بعضها برقاب البعض .
ولكن أشد مهازلكم وقعاً في الأرواح هذه الحفلة التكريميّة التي تخادعون فيها بعضكم . لا بل وتدلسون بواسطتها على نفوسكم . فهل أنتم تؤمنون الآن بما تقولون وما أنتم إلاّ كاذبون !
أعلنتم الحرب يا قوم بعدما أن خدعتم الأمة بأسرها وانتزعتمونا من بين أهلنا وعشيرتنا وحرمتمونا نعمة الراحة وطمأنينة النفس التي وهبها لنا خالق السموات والأرضين بما تحتويانه .
لقد لعلعت صيحاتكم . ودوّت مجالسكم الرسميّة . وانطلقت قنابل خطبكم تدوّي في الشوارع .
حتى الأزقة الحقيرة لم تسلم من أكاذيب دعاتكم الذين هم على شاكلتكم .
زعمتم – وما أكذب مزاعمكم – أنكم ستمنحوننا الحريّة التامة .
وستملأون أهراءنا بالحبوب … وأنكم ستحرروننا من الخوف والقلق الدائمين . وغيرها كثير من الوعود العرقوبيّة التي هي فرع عن الأصل كالعدالة والإخاء والمساواة . فماذا كانت النتيجة الواقعيّة بعد الانتصار ؟
لقد كانت مهزلة دنية واأسفاه . إنّ الملوك والوزراء والقواد والساسة بعدما دفعونا إلى خنادق الموت الزؤام نبذوا من كتبت له الحياة نبذاً شنيعاً . فما يكاد الجندي يطلب مقابلة أحدهم حتى يجد أعراضاً مخجلاً . ناهيك بالخدود المصعّرة والأنوف العالية صلفاً وكبرياء .
نعم أيها الكذبة نعم ! فها هي الحرب قد انتهى عهدها البغيض .
وقد مضى عام ونصف العام منذ صمت دوي آخر رصاصة أطلقتها بندقيّة .
فهل حقّقتم أيها الصادقون وعودكم الكثيرة ؟ وهل نالت الشعوب الضعيفة حرياتهم ؟ وهل ستمكنونها من حكم نفسها بنفسها مثلما قطعتم لها العهود إذ بذلت لكم مساعدتها العظيمة التي قامت في تنفيذها بإخلاص عميق ؟ وهل ملأتم أهراء عيالنا بالحبوب ؟ وهل زال القلق والخوف من عالمكم بعد تضحياتنا الجسيمة ؟
قلتم أنكم تعلنونها حرباً شعواء وتثيرونها جحيماً فيه بلاء وأي بلاء رحمة باليائس ، واشفاقاً على البائس ….
فهل أطمأنّ هذا اليائس . وهل زال ما يشكو منه البائس بعد ما كسبتم الحرب ؟
إننا معشر الأرواح الذين بتنا في ملاء علويّ شفاف من كافة الجنسيات التي جعلت الأطماع الدنيويّة منّا أعداء الداء قد اجتمعنا هنا ونزعنا من أرواحنا أدران الأرض وخباثاتها .
وكم كانت دهشتنا عندما تكشّفت لنا الحقيقة وذعرنا كيف كنا عبيد غاياتنا وروّعنا بكيفيّة قبولنا الاعتداء على بعضنا البعض ، وكيف كنا أعداء دون أن يكون هنالك سبب معقول ولكنها الغايات تعمي البصائر والأبصار .
لقد اجتمعنا هنا وكوّنا أسرة روحيّة واحدة . فأعداء الأمس الذين كانت تغمر قلوبهم الكراهيّة أصبحوا أصدقاء اليوم تعمر أرواحهم المحبّة الحقيقيّة .
فالألماني والبريطاني والإفرنسيّ والتركي والبلجيكي واليوغوسلافي والبلغاري والروسي والزنجي والأميركي والأسترالي وغيرهم من مختلف الجنسيات التي فرضتها غايات الأرض فرضاً على الأمم أصبحت الآن تنتمي إلى جنسيّة روحيّة واحدة بعد أن نبذت أضاليل الأرض وسخافات الحياة .
فهنا لا سائد ولا مسود . لأن قانون السماء قد وحد بين الجميع . والحقيقة الإلهيّة كشفت عن أعينهم غطاء الجهل . فأصبحوا يخجلون مما كانوا يقومون به في عالمهم المشتق من الجحيم …
إن سعادتنا أيها الممثلون المهرجون المتلوّنون لهي تامّة السعادة .
أو ما كفاكم ما أوقعتموه بنا في عالم الأرض حتى أتيتم تزعجون أرواحنا في عالم السماء والنقاء .
فإذا كنتم – يا من يسمونكم سادة – تظنّون أنّكم بهذا الاستعراض المسرحي تكرمون أرواحنا فيا ما أبعد ظنونكم عن الحقيقة الواقعة .
إنني أؤكّد لكم بأنكم تهينوننا إهانة عظمى . وأنكّم تغصبون الحق سبحانه بعملكم المجرم .
إنّ هذا العالم الذي أصبحنا فيه هو عالم لا يعرف ولا يعترف بعظيم وخطير . ولا يأبه بتحيّة ملك أو وزير .
فإذا كان لديكم من هذه البضاعة الشيء الكثير … فاحتفظوا بها لمناسباتكم الأرضيّة الكثيرة . ودلّسوا بها على بعضكم البعض لأننا تأكدنا أنه من العبث تقويم اعوجاج نفوسكم وطرح أطماع قلوبكم .
أما هذه الموسيقى التي تعزفونها لتكريمنا مثلما تزعمون ، وتظنونها أنها شيء عظيم فإنني أصدقكم القول أننا نفضّل على أنغامها نباح الكلاب .
أما الخطب الملكيّة التي تظنون أنها تولينا شرفاً فإنها أتفه من أن تبعث في أعطافنا السرور بعد ما أصبحنا نعاين مليك الحق والعدالة الخالدين .
وثقوا أيها المغرورون المغرّرون بأنكم في اليوم الذي تخلصون فيه من جسدكم المادي وتتحررون من قيوده الكاذبة التي تكبلكم تكبيلاً وتفرض إرادتها الشيطانيّة عليكم ، ويوم تعاينون فيه الحق بعدما تصبحون فيه أرواحاً شفّافة مثلنا ، ويوم بتمّ الله سبحانه نعمته العظيمة عليكم ، ويسبغها على أرواحكم التي كانت رهينة رغبات أجسادها الترابيّة … إذ ذاك ستتأكدون أن مهازلكم كانت غاية في الحقارة ، وأنكم كنتم في غياهب الجهل تعمهون .
فهل تندمون منذ الآن يا أبناء وطني السابق وبذلك تكفرون أم تراكم أيها الأغبياء لا ترعوون ولا تأبهون !….