القلب المحطم
مؤلفات الدكتور داهش

القلب المُحطَم

القلب المحطم

القلب المُحطَم

 

يا قلبي

يا قلبي المعذَب، ويا عواطفي المُحطَمة،

ويا ميولي الجبَارة، ويا إحساساتي البائسة !

أنا ابن الأسى ووليد العذاب !

فطَهريني ، أيَتها الألام،

وانتشليني يا إلهة الطُهر

مما أنا فيه من تعسٍ بالغ ، وعذابٍ كبير .

                                               داهش

                                               من كتاب ” كلمات ”

 

فاتحة الكتاب

 

       أهلا بالقلب المُحطَم المُلهم

يا أخي،

أرأيت الروض الناصع الزاهر بأزهاره ؟

والبحر الواسع الزاخر بتيَاره ؟

والفضاء الشاسع الباهر بأنواره ؟

هذا هو الدكتور داهش الرائع الساحر بأسراره !

فمن بساطة مُتناهية إلى عبقرية لامُتناهية !

ويشهد عليَّ هذا القلم الجاري على هذه الصفحة

يسوِدها كما تسوِد فحمة الليل وجنة النهار ،

أنَني ما دخلت مرَة على هذا الأخ العجيب ، والانسان الغريب ،

وهو في سرِ خلواته ،

إلا خرجت من غرفته حائراً مدهوشاً

لما أراه وألمسه من عجائبه وآياته !

فمن مطالعات دائمة ، ومراجعات ملازمة ،

وظاهرات روحيَة علويَة ،

إلى مباحث أخلاقية ،

إلى نشر آثار قلميَة ، وألوان أدبيَة فنيَة ،

هي بالإعجاب والدهشة حرية !

وأمامي ، الآن ، مخطوطة ” القلب المحطَم ” ،

من نتاج ذلك القلم ( السحريَ ) والفكر ( المُلهم ) ،

وهي صفحة من صفحاته ، ولمحة من لمحاته ، ونفحة من نفحاته !

وفيها الشعر والنثر ، والمعنى العميق الدقيق ،

والمبنى الرصين الرشيق ؛

وفيها العناوين الفريدة ، والمباحث المُفيدة ،

وكلها ترمي الى المرامي البعيدة والأهداف السديدة .

وأنت إذا طالعت هذه المجموعة من الألف إلى الياء ،

كما طالعتها أنا ، خشعت نفسك مثلي

لمثل هذه الرسائل البديعة ،

والتأملات الرفيعة ، والأحلام الصريعة ،

والصرخات الداوية ، والكواكب الهاوية ، والآمال الذاوية ،

إلى ما هنالك من نفثات صادقة ، وقلوب خافقة ، ودموع دافقة ،

وذكريات مؤلمة ، وثورات مُهدَمة ، وأجنحة مُحطَمة ،

ونفوس جائعة ، وحوادث رائعة ، وتنبؤات واقعة ،

الى غير ذلك من روائع بدائع الأقوال ،

حيث يتعانق الخيال بالحقيقة والحقيقة بالخيال !

وعندئذ ، تخشع الروح النقية فترتفع إلى العلياء ،

وتسمو الى أسمى سماء !

فيا أخي ،

إن كتاب ” القلب المُحطم ” تحفة ، بل طرفة !

وهو عندي همسات الهام ، ولمسات أقلام ،

وإن كان في نظر سواي عصارة يأس ودموع وآلام !

وإذا كان ( الألم واليأس ) ينبثق منهما ،

مثل هذه النظرات الأدبية المُذهَبة ،

والخطرات الروحية المهذَبة ،

فمرحباً باليأس ، وأهلاً بالآلام ،

ومرحى لنوائب الزمان ومصائب الأيام !

لم اشْكُ من وقع المصائب مرةً       إن المصائب هذَبت أخلاقي

هذا بيت من أبيات قلتها من سنوات ،

واليوم ، جاءت هذه المجموعة الفريدة تؤيد هذا ( البيت ) وتقوِيه ،

وتدعمه بأدلتها البالغة البليغة وتعليه .

نعم، هذا ما لمسته وشعرت به ،

بعد أن طالعت بلذةٍ روحية هذه المجموعة الفنية الرائعة ،

وبعد أن أتيت على آخر كلمة من آخر سطرٍ

من آخر صفحة من صفحات هذا المؤلف العجيب !

 

أهلاً بالقلب المُحطَم المُلهم !

أهلا بالقلب الخافق الدافق !

فمنه ستتفجر مياه الرحمة والحب والحنان !

وحبَذا ( صخرة اليأس )

تغالبها الرياح الهوجاء ،

وتشقُها عواصف الأرض والسماء ،

فتحيينا بمثل هذه الينابيع الروحيَة الصافية ،

وتنعشنا وتقويّنا بالأسرار الإلهية الشافية !

                                               حليم دموس

                                             بيروت ، 12 حزيران 1942

 

شاعر يموت

 

ربَـــة الشعــــر الهمينـــي            معجـــزاتٍ خالــــداتْ

وادنـــي منـي تسعدينــــي           أنت يـــا سر الحيـــاةْ !

 

علِلينـــــي ، أملينـــــــــي           أخبريني ، يـــا فتـــــاة

أصدقينــي ، يـا ملاكــــي          هل تعود الماضيــاتْ ؟

 

يــا لقلبـــي من معنًــــــى             يا لها من زفــــــراتْ !

 

 

أعلمينـــــي ، يا فتاتــــي ،           أين تلك المبهجــــــاتْ؟

 

فَتَنَتْنــــــي إذْ رمتنــــــي             بعيــــون ناعســـــــاتْ

وحَنَتْ نحـــوي عطفــــاً           كحنــــوِ المرضعـــاتْ !

 

قبَلتْنــــــي ، أنعشتنــــي           أصعدتني السمــــواتْ !

غمرتنــــــي بزنــــــودٍ            يانعـــاتٍ رائعــــــاتْ !

 

يــــــا لسعدي ونعيمــي            يا لها من مفرحــــــاتْ !

كـــم رقصنــا وشدونـــا           في المروج العامــراتْ !

 

ويح قلبي ، بعــد هـــذا ،        قطعـــت كلَ الصـــلاتْ

فغـدتْ روحي حيــــرى       كالحيارى التائهــــــاتْ !

 

هجرتنـــي ، نبذتنـــــي       سلبـــــت مني الحيـــــاةْ

هل سمعتم عن عذارى       ذات دَلٍ فاتكـــــــــاتْ ؟

 

ضاق عيشي بعد هجـرٍ       ذقتُ فيه المهلكـــــــاتْ

غاب أنسي ، يا لبؤسي !     يا لها من محرقـــــــاتْ

 

يا لنفسي ! يـا لتعسي !       بعد تلك الذكريــــــــاتْ

 

 

هدَمتنـــي ، قوضَتنــــــي        حطَمتنـــــي النائبــــاتْ !

 

بخشــــــــوعٍ وخضـــوعٍ         ودموع ساقطاتْ  

وخــنــــــوع وركـــــوعٍ         وذهولٍ وشتاتْ !

 

يــا لتعســــي وشقائــي !         يا لها من طاغياتْ !

ذكريــات قـــد طوتهـــا   _     السنوات الغابراتْ !

 

لا تزيدي فـــي شقائـي ،       يا نعيمي في الحياةْ

واذكريني ، يـــا هنائي       واغفري لي السيئاتْ

 

طمئنيني ، يا ( عنايَتْ )     يا نواةَ الذكرياتْ

طمئنيني ، إنَ قلبـــــــي           ناشدٌ منك النجاةْ

 

ربّـــة الشعر ارحمينــي       واصنعي ذي المعجزاتْ

ليت شعــري ! بشِريني     هل تزول المنغصاتْ ؟

 

يـــا لقلبي من حزيــن !         هل مضى عهدي وفاتْ ؟

ليتهـــا ترجع يومــــــاً             قبل أن يدنو المماتْ !

 

كم وكم جبتُ الفيافـــي     والقفار الشاسعاتْ

كم مخرْتُ البحر حتى   كدت أن ألقى المماتْ !

بعد أن أقضي شهيــداً       يا طيوراً حائماتْ

بسكونٍ غرِدي لي         واسرعي نحو الفلاةْ

 

أخبريها ، يا طيوري ،     كم سكبْتُ العَبَراتْ

ونفثتُ الزَفراتْ           في الليالي الداجياتْ !

 

أيقظيني من سباتي       انا لا أهوى السباتْ

ودَعيني في حياةِ     _   الخُلد خَيْرٍ الحَيَواتْ !

 

أشعريني بحفيفٍ         يا غصوناً رائعاتْ

أطلقي لحناً شجياً       في الليالي الساطعاتْ

 

غاب بدري ، عيل صبري ،     ضاق صدري في الحياةْ

هاكِ قبري قُرْبَ زَهْرِ           وورودٍ يانعاتْ !

                                                         القدس ، 25 كانون الثاني 1934

 

صلاة الفجر

اتبعيني ، يا بنيتي ، لنذهب الى ( بيت الله ) ،

لنرفع له الصلوات الصادرة من قلوب أفعمتها الأحزان ،

وتآمرت عليها حوادث الزمان .

هيا أسرعي ، يا بنية ، قبل أن ينبلج الفجر،

وترسل عذارى النور خيوطهن المتألقة ،

فتبدد هذه الظلمات المتكاثفة .

هيا بنا ، يا بنية .

أنصتي جيداُ…

ألا تسمعين خطوات النسوة وهن يسرن بسكون في الطريق

ذاهبات حيث ( بيت الله ) ،

ليقدمن له طلباتهن ،

ويستغفرن عما أتينه من ذنوب وأسرار خفية ،

يكتمنها حتى عن أنفسهن ؟

أسرعي ، أسرعي ، فإن الدقائق تمر متتابعة ،

وتلحق بها الساعات متسابقة .

هيا قبل أن يولي الوقت ، ويأتي الفوات .

هلمي لنضرع إلى العليّ ليباركنا .

أسرعي ، أسرعي . ما بالك تتوانينْ ؟

أولا تعلمين أنه لم يبق من الوقت سوى مدة قصيرة لا تفي بما ينبغي ؟

 

دعينا نجثو في المعبد باحترام ،

ونقدم الى الخالق ، عزّ وجلّ ،

كل ما تجيش به دخائلنا من ميول ورغائب مكنونة مستورة .

في الصلاة عزاء، يا بنية .

إنها فرصة لا تتاح كل حين ،

فأسرعي معي ، هيا ، هيا

حيث نشعر بالسعادة تتملكنا بعد ذلك .

لنترك شرور هذا العالم وما فيه عند تطلع قلوبنا الى السماوات .

لنتناس الهموم والأتراح والمنغصات وكل ما في هذه الحياة .

لننس ويلاتها وشرورها ،

لننس آثامها وغرورها .

لنتناس كل شيء ، يا بنيتي ، ونتجه نحو القدير ،

فنشعر ببردِ السلامة والسكينة يُخيمان فوق رؤوسنا ،

ونستشفَ العذوبة الروحيَّة ،

وتستكين قلوبنا المتألمة من هذه الحياة ،

فنسعد ، وإن كنا ما نزال بعد في الحياة .

أنصتي جيداً… إنها أناشيد سماوية !

إنهم يرفعون كلماتهم (المصوغة) في قالب شعري

يسبحون بها خالق السماوات ، وباسط الأرض ،

كي يغفر لهم ما أتوه من أعمالٍ يستحقون عليها الحساب .

أنظري إلى عيونهم كيف أقفلت ،

وتمعني في ملامح وجوههم ، وفي أسارير جباههم ،

إنها تدل على خشوع مُتناه كليّ أمام الخالق العظيم .

فلنخشع ، يا بنيتي ،

ولنضرع إلى الله كي يزيل عنا هذه الأوزار المُثقلة بها ذواتنا من ساعة ولادتنا إلى ساعتنا الحالية،

وحتى يأتينا داعي الموت فنذهب إلى حيث ينتظرنا العقاب .

أسجدي ، أسجدي ، أيتها الطاهرة ،

لأنك ما تزالين صغيرة السن ، يا طفلتي العزيزة .

 

ليتني مثلك ، يا فتية !

إنك ما تزالين نقية ،

فاحرصي على طهارتك كي تبقي كالحمامة الوديعة .

لا تدعي الشرَ يتغلب عليك ، يا بنية ،

لا ، لا ، وأبعدي الأفكار الرديئة إذا ما ساورتك .

ها هي خيوط الفجر قد ابتدأت ترسل أشعتها النورانيّة ،

فتبدّد الظلمات المُكتنفة الهيكل .

أكملي صلاتك ، يا بنيتي ،

قبل أن يعمَ النور أرجاء هذا المكان المقدس .

 

أنظريهم يغادرون أماكنهم مُسرعين ، بعد أن أنهوا فروضهم الدينية .

ها قد احتلّ النور أرجاء المعمور ،

وها قد لبس المعبد حلَة بهاءٍ ، وسطوعٍ وصفاء !

فهيا بنا ، يا بنية ، نرجع إلى منازلنا .

ويا لحياة الانسان !

إنها أحلام تمرُ بنا ونحن لا ندري !

أنظري ، ألم نكن ، قبل أن نجيء الى هذا المكان ،

نرى الظلام يعمُ الأرجاء ؟

ولكن انظريه أين هو الآن !

ها قد تبدد وكأنَه ما كان !

وهكذا سيحلّ في المساء ، كما اعتاد ، وسيولي هذا النهار .

وهكذا حياتنا تنقضي !

فما أشبهها بتوالي الأيام ، وكرور الأعوام !

                                                       القدس ، 27 كانون الثاني 1934

 

أنا غريب

نعم ، أنا غريب في هذه الحياة الغريبة عني .

نعم ، أنا جئت من عالم مضيء غير هذا العالم الكئيب .

نعم ، أنا أشعر بثقل الثواني وهي تمر بي مرَ الخاطر .

نعم ، أنا سرعان ما أراها تتحول إلى دقائق فساعات .

نعم ، أنا أشاهدها وهي تصير أياماً فأسابيع …

نعم ، ثم كأني بها بها وقد صارت شهوراً فسنين !

نعم ، إنني أحصيها بعد أن تتكاثف وتتكاثر .

نعم ، وأحسُ بنفسي أنمو من سني الطفولة .

نعم ، وأستقبل طور الشباب فالرجولة .

نعم ، ثم أرى السنين تحطُ عليَ بكلكلها الثقيل .

نعم ، وسيتقوس مني الظهر ، ويخبو فيَ الشعور !

نعم ، وأفتش عن العكاز المعقوف ، فإذا هو لا يفارق يدي !

نعم ، ثم أحسُ بالضعف العام الشامل

يسير في جسدي متمشياً في مفاصلي !

نعم ، ووشكان ما أراني هِماً عديماً بالياً .

نعم ، ثم أشهد الجدث القاسي فاغراً فاه لابتلاعي !

نعم ، ثم إذا بي أجد نفسي صريعاً

بين يدي حبيبي ( الموت ) المُهيب الجبَّار !

نعم ، فترتعش روحي ، وينتعش جسمي ، إذ أطرب لهذا اللقاء !

نعم ، ثم يُهال التراب فوقي ، ويذهب القوم .

نعم ، وأبقى وحيداً فريداً لا مؤنس لي في وحشتي .

نعم ، فأنا هكذا أتيت ، وهكذا سأعود.

نعم ، إذ غريباً أتيت الى هذا العالم…

نعم ، وغريباً سأغادره كما أتيته !

                                        القدس ، كانون الثاني 1934

 

 

    

أضحوكة الحياة

 

ما الحيـــاة غير وهــــمٍ         باطــلٍ سوف يــزول !

فالدراري سوف تخبـــو          بعد وقت لا يطــــول !

وذكــــاء سوف تفنــــى           بعد ذيـــاك الشمـــول !

والليالـــــــي ستولّـــــي           عندما يأتي الأفــــول !

وقصـــور عامـــــرات           سوف تغدو كالطلول !

وشعوب الأرض طرّاً             دوَلٌ سوف تـــــدول !

وملوك الأرض جمعاً              حكمهم سوف يحـول !

ويجول الخــــوف في           هذي البرايا ويصـول !

كل ما فيهـــا قريبــــاً             سوف يعروه الذبــول !

يا له من يـــوم رعبٍ           إنّــــه يــــوم مهــــول !

 

والطيور الحائمات   والصروح العاليات   سوف تهوى !

والمروج العامرات   والورود الناضرات   سوف تذوى !

والجبال الشامخات   والصخور الراسيات   سوف تعفى !

والبوادي الشاسعات   والصحارى الواسعات   سوف تمحى !

ودموع العاشقات       وحنين الوالهات     سوف ينسى !

والغواني الفاتنات   واللحاظ الفاتكات     سوف تسلى !

والعيون الناعسات   والشعور الحالكات   سوف تبلى !

والخطوب الطاغيات   وغرور الماضيات   سوف يفنى !

والدراري اللامعات   والنجوم الساطعات   سوف تطفا !

والمياه الساقطات       والبحار الهائجات     سوف تطغى !

وأضاحيك الحياة   وسخافات الممات       سوف تطوى !

                                                                         القدس ، في 29 كانون الثاني 1934

 

 

 

 

 

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *

error: Content is protected !!